كنت أود أن أكتب فى موضوعين أخرين مع الموضوع التالى لكننى لا أتذكرهما. هذا سيكفى.
شاء لى القدر أن أذهب إلى مدينة ليفربول الإنجليزية. وكانت رحلتى تبدأ من مطار القاهرة وتنتهى بمحطة لايم ستريت الليفربولية، مرورا بمطار هيثرو ومحطة يوستن بلندن وما بينهما من متاهة أسمنتية حديدة أنفاقية. الرحلة بدأت الساعة السادسة صباحا وأنتهت السادسة مساءا. هكذا وفى نصف يوم إنتقلت من الجنوب إلى الشمال ومن اليمين إلى الوسط. وحزنت.
لقد حولت الحضارة السفر إلى مجرد فترة إنتظار. كالدجاجة فى المايكرويف. قد كنت مجمدا والآن ستصبح طعاما!!
لقد أفتقدت الرحلات فى الماضى السحيق عندما كان المرء يسافر من العراق إلى مصر فيمر بشعوب وحضارات وأسواق وروايح وألوان وأصوات فيملأ كيانه بكل ما يعجبه وينسى كل ما لا يعجبه. لا بد أن السفر آن ذاك تجربة مثيرة عن جد. لقد سلب التقدم العلمى كل المتعة من السفر. ما بين ملأ الحقائب باستخدام ميزان حتى لا تخل بقوانين شركة الطيران فلا تدفع غرامة وبين الجلوس فى كراسى ضيقة وتناول طعام ما أنزل الله به من سلطان ثم ختم الرحلة بالإيجابة عن أسئلة بلهاء وكل ما يشغل بالك هو عدم إثارة الشكوك عند أحد من المتحفزين من رجالات الحدود فى البلد المضيف.
ثم فاصل من المشى لمسافات طويلة مع جر الأثقال التى حزمتها بيدك من بضع ساعات وتخطيط رحلتك على الأفعى الحديدية المجوفة.
طوال هذا لا توجد ألوان سوى الرمادى والكحلى. لا توجد روائح سوى المطاط والبلاستيك. ولا توجد حضارات فقط حدود.
وبما أن التكنولوجيا هشة فلا ضير من المرور بكل هذا وفى جيبك هاتف محمول خالى البطارية وبه ثمانية جنيهات من الرصيد.
منذ أن هبطت فى هيثرو وحتى وصلت ليفربول لا أظننى أنى رأيت السماء التى فوقى مباشرة لمدة خمس دقائق متصلة. يا لها من تعاسة. فعلا لقد كنت شقيا طوال هذا الشق من الرحلة. لقد ضاع السحر فى السفر وسار مجرد جلوس فى آلات حديدة ووقوف فى طوابير.
ركبت سيارة أجرة بجوار محطة القطار لأذهب لوجهتى فى ليفربول. أوصلنى السائق لمنطقة لا تشبه مطلقا تلك التى رأيت صورها من أسابيع. وبعد جولة استكشافية وعدم وجود أى علامات يستدل منها على المكان دفعت الأجرة وأخذت الحقائب ونزلت. ورحلت سيارة الأجرة. ووقفت وحيدا. فى ليفربول. بدون خريطة. فى عنوان خاطئ. بدون أى وسيلة إتصال. وفى جيبى خمس مائة جنيه استرلينى. فى شارع مظلم.
مشحونا بالعديد من الأفلام الأجنبية ومعلومات شبه مهزوزة عن معدل الجريمة فى شمال انجلترا ونبض وضغط مرتفعان، أخذت بمقبضى حقيبتاى وقررت البحث عن المكان أو أى شخص يمت له بصلة. سألت عدة أشخاص ووجدت مركز رياضى ما زال مفتوحا (يذكر انها كانت تقرب من السابعة وأغلب الأماكن تغلق أبوابها فى السادسة) فدخلته وتفقدت عنوان غايتى الذى بالطبع كان خاطئا على الحاسب الآلى الخاص بالمركز وطلبت سيارة أجرة أخرى من هاتفهم. وهكذا أنقذتنى ذاتها التقنيات التى سلبت مرحى يوم السفر.